عندما التحق موسى الصدر بقافلة الحسين
ثوابت المقاومة وهوية الانتصار
تستمد المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي أهم مقومات وجودها من الجهد الهائل الذي بذله الإمام موسى الصدر، ليس فقط من خلال دعوته المتواصلة للتدريب على السلاح واقتنائه واستعماله في مواجهة الاعتداءات الاسرائيلية، تمهيدا لتحويل هذه الدعوة الى عمل منظم تتوافر فيه شروط الاستمرارية والانتصار، وانما ايضا من خلال الثوابت الاهداف الكامنة في خطابه حول المقاومة ضد اسرائيل.
كما ان فكرة المقاومة نفسها لم تقتصر على الاعمال العسكرية بقدر ما تضمنت دعوة الى تأسيس مقاومة مدنية، شاملة ميادين الممانعة كافة، فقد كانت اختزالا لقناعة عميقة باستحالة تأسيس مقاومة مسلحة بدون بناء مجتمع مقاوم تخرج من رحمه ويرفدها بقدرة التواصل والمثابرة وتحمل التضحيات. وحده المجتمع المقاوم ينتج مقاومة.
لذلك، فإن إصرار الامام الصدر على ضرورة قيام مجتمع مقاوم وصامد وصابر ورافض لكل أشكال التعامل او اليأس او الاستسلام للقدر، كان الوجه الآخر غير المعلن، لإصراره على تأسيس مقاومة مسلحة ضد اسرائيل في جنوب لبنان.
وبعد ان أعلن بمناسبة ذكرى عاشوراء في 2 شباط 1974 في بلدة ياطر الحدودية، اننا <<نحن حفظة لبنان>> وانه هو <<الشيخ المريض مستعد ان أحمل البندقية وأقف معكم على الحدود>>، انتظر عاشوراء العام 1975 لكي يطلق دعوته لتشكيل مقاومة لبنانية. ففي 20 كانون الثاني 1975 وفي خطابه بمناسبة ذكرى عاشوراء في الكلية العاملية في بيروت أعلن الإمام السيد موسى الصدر فكرته بوضوح قائلا: <<... هل الخوف من اعتداءات اسرائيل لا يتطلب منا الاستعداد للمعركة وحمل السلاح؟ هل يحتاج الدفاع عن النفس الى الاستشارات والتفلسفات والتجريدات؟ اذا لم تدافع السلطة عن الناس فلتتركهم يدافعون عن أنفسهم بسلاحهم، كما فعل عدد من الأبطال في الطيبة فأعطوا بريق أمل ورؤية جديدة... إسرائيل تدبر لنا المؤامرات ونحن نحزن الحزن المترف. واجب الانسان، كل إنسان أرادت السلطة أم لم ترد، ان يتدرب ويتسلح كعلي بن أبي طالب والحسين بن علي، واذا لم يجد استعمال السلاح فذلك انحراف عن خط علي والحسين. واجب كل مواطن وأقولها بلسان الحسين ان يقاتل، واجبنا ان نكوّن مقاومة لبنانية قبل ان نشرد في أراضينا... على كل شاب ان يتدرب ويحمل السلاح لتأسيس مقاومة لبنانية تلقن العدو درسا، واذا مات منا عشرة ومنهم واحد فهذا عظيم.. الدفاع عن الوطن ليس واجب السلطة وحدها، واذا تخاذلت السلطة فهذا لا يلغي واجب الشعب في الدفاع... حركة الحسين لا تربي أذلاء بل تربي أبطالا يرفضون السكوت على الظالم، نحن لا نقبل ان تبقى أرضنا بلا دفاع، وعلى الحكومة ان تعلن موقفها. إما ان تدافع او لا تدافع، والمسؤول الذي لا يعمل على حفظ لبنان فليجلس في بيته. هذه مطالبنا ولسنا مستعدين لدفع ثمن المعادلات السياسية. ولن ننتظر اميركا او الاتحاد السوفياتي او الدول العربية لتدافع عنا. انهم سيدافعون عنا فقط عندما نبدأ القتال. اول رصاصة تنطلق من بنادقنا ستغير المعادلات الداخلية والخارجية. فلنقف على أرجلنا ونتسلح ونشكل مقاومة لبنانية..>>.
لا تكتفي مضامين هذا الخطاب بإظهارها عزم الإمام على تشكيل مقاومة لبنانية، وانما تحدد أيضا الثوابت الكامنة فيها. فالثابت الوطني تدل عليه <<لبنانيتها>> ومبرر قيامها في الدفاع عن الوطن. فهي لبنانية خالصة تحميها غايتها الوطنية من منازعات الطوائف على قدر ما تشجعهم على الوحدة من أجل الوطن بعد وضوح التلازم المصيري بين لبنان وجنوبه. والثابت الديني جاء واضحا ببعده التعبوي كما بوجوبه الشرعي. ولم يكن التمثل بالحسين تخصيصا للشيعة عن سواهم بقدر ما جاء وضعا للإيمان في سياقه الصحيح، سياق مواجهة الظالم وليس سياق التعبد المعزول عن مفاعيله في الجهاد ضد عدو للدين والوطن معا.
وقد أعاد الامام الصدر التذكير بهذه الثوابت خلال إعلانه ولادة أفواج المقاومة اللبنانية التي باشر تأسيسها السري منذ 1973 قبل انكشافها إثر انفجار لغم أثناء التدريب في عين البنية في 5 تموز 1975، ذهب ضحيته 27 شهيدا و43 جريحا كانوا في عداد إحدى مجموعات التدريب السري لهذه المقاومة.
وقد لازمت هذه الثوابت تاريخ المقاومة ضد إسرائيل منذ لحظة إعلان ولادتها الى يوم انتصارها في 24 أيار عام 2000، وهي الثوابت التي رأى اليها الإمام الصدر بما هي شروط للاستمرارية والانتصار، بحيث يكون الانحراف عنها الى حسابات وسياسات فئوية عائقا لها واستنزافا للمقاومة واستدراجا لها في متاهات تُبقي إسرائيل على احتلالها وتُبقي لبنان في مهب الريح.
وفي مقابل هذه الثوابت التأسيسية والاستراتيجية وتعبيرها عن هوية المقاومة، منذ إعلان ولادتها عام 1975 وتحقق انتصارها عام 2000، فإن الانتصار نفسه وهوية صانعيه وأثرهما العاجل والآجل، في الداخل والخارج، كانت من العوامل التي أثارت هواجس ثقافية كانت كامنة في مواقف الجماعات الاهلية والسياسية في لبنان من المقاومة في بعديها الاهلي والايديولوجي.
وفي حين يعبّر السجال عن اهتمام بالبعد الثقافي للمقاومة، فإن هاجس المتساجلين لم يتمكن من تورية قلق مقيم من تداعيات الانتصار وانسحابه على موازين قوى أهلية وسياسية وثوابت موصولة بعصبيات حزبية وطائفية وايديولوجية... وفي هذا السياق تندرج وجهات نظر منفلتة من عقالها، واحدة تروج لإمساك حزب الله بالقرار الشيعي، وثانية تهوّل من شيعية الانتصار ومفاعيله على التوازن الطائفي، وثالثة تبحث عن كفن ملائم لأيديولوجيات علمانية ويسارية أمعنت <<إسلامية>> المقاومة في كشف عزلتها والعورات...
وباستثناء مقالات ذات صلة عضوية بالمقاومة نفسها، فإن أصحاب وجهات النظر هذه، على تعدد مشاربهم والغايات، اجتمعوا على حاجاتهم الى عزل الانتصار عن جذوره الفكرية وعن ثوابت البعد الوطني الغالب في عوامل تأسيس وجهاد وانتصار المقاومة. وبالتالي، فإن وقف المقاومة على جماعة أهلية وإدراجها في التنافس الطائفي والتوازنات الاقليمية، ينذر بالنكوص الى نفس اللغة التهويلية والتشكيكية التي رافقت خطاب المقاومة ومؤسسها كنقيض لخطاب الحرب الاهلية. وهو نكوص يهدد بتجريد الانتصار على الاحتلال الاسرائيلي من أهم أبعاده، لا سيما البعد المتصل بالوطن بما هو انتماء الى هوية وطنية جامعة أقوى من الطوائف وضرورة لها وللدولة التي تديرها، والبعد المتمثل في الانتماء الى هوية عربية تعيد الدور المميز للبنان في محيطه العربي بعد استئصال اللغم الاسرائيلي الذي طالما أمعن في تعميق انقساماته الاهلية وتعطيل دورة حياته وأنموذجية رسالته التعددية في المنطقة والعالم، إضافة الى البعد الاسلامي بما هو انتماء مشروع الى هوية دينية وجدت في ثوابتها الفكرية والمعتقدية تجسيدا وتعميقا لحاجة اللبنانيين الى وطن جامع ودولة واحدة وعادلة في تدبيرها أمور المجتمع الطوائفي، بحيث يكون البعد الديني تعبيرا عن انتماء وطني غير ملتبس او منقوص او منعزل في عصبية طائفية او مناطقية، تماما مثلما هو تجسيد للإيمان في إرادة قادرة على تحويل الضعف الى قوة، حيث تظهر الهوية الدينية، تحديدا، في إقبال المؤمنين على الشهادة التي بواسطتها تتوازن القوى غير المتكافئة أصلا، وتفسّر وحدها سر انتصار الدم على السيف..
هذه الأبعاد ذات الصلة بالهوية والثوابت كانت حاضرة وحاسمة في خطاب الإمام الصدر حول المقاومة اللبنانية ضد إسرائيل، ولم يعدل فيها التموضع الشيعي لتأسيسها، اذ انه، أي التموضع الشيعي، لم يكن مرغوبا بذاته بقدر ما أفرزته الطبيعة التكوينية للبنان، حيث يظل خطاب الشخص موقوفا على جماعته الاهلية، رغم انه يسعى الى أهداف تتعلق بمصير الجماعات الاهلية كلها بما هي شعب في وطن.
ولم يترك الامام الصدر مناسبة الا وشدد فيها على مخاطر توصيف خطابه بالطائفي والفئوي، حيث أنهكه تكرار الثوابت التي أرادها معنى للمقاومة وغاية وحيدة لها. وفي حين انه، وفي قرارة نفسه، كان يدرك <<شيعية>> التجاوب، فإن طموحه ظل قائما على أمل الوصول الى تجاوب <<لبناني>> بحجم المقاومة ومبرر وجودها. وقد تمثل هذا الطموح في خطاب متواصل تجتمع فيه ثوابت الوطنية والقومية والدين بصورة تكاملية وعضوية، حيث تجمع المقاومة ما تفرقه الطائفية وما في معناها...
وبهذا المعنى، أراد الإمام الصدر ان تكون هوية المقاومة التي يدعو الى تأسيسها قائمة على هذه الثوابت، حتى وان اقتضى الامر تأسيسها على نصاب شيعي. فالثوابت وحدها كفيلة بأن ترقى بها من <<شيعية>> التأسيس الى <<لبنانية>> الاستمرار والانتصار.
وفي هذا السياق ايضا، وضع الإمام الصدر الوطن والبعد الوطني في مقدمة الثوابت والاهداف التي ينبغي ان تتأسس عليها المقاومة وتسعى الى تحقيقها. ذلك <<ان الوطن يجب ان يبقى، ولا يحل محل الوطن شيء وان الانسان لا معنى لوجوده في هذا العصر دون وطن>>، كما ان <<الالتزام المطلق بالوطن هو إكمال للانتماءات القومية والدينية والاممية ولا يتناقض معها إطلاقا...>>.
كما كتب الإمام في مقالة اخرى منشورة في مجلة <<صوت المحرومين>> الصادرة بتاريخ كانون الاول 1976.
وتأتي عروبة لبنان امتدادا للثابت الوطني وتحصينا له، لا سيما ان <<محنة لبنان هي في محاولات عزله المستمرة عن العالم العربي، وهو امتداده الحقيقي القومي>>، أما علاج هذه المحنة، برأي الإمام الصدر، فإنه يتطلب <<إعادة دوره القومي اليه في مواجهة اسرائيل، وفي المشاركة الفعالة في المجال العربي>>.
أما الثابت الديني فقد انفرد الإمام الصدر في تبيان أهميته المتعددة الابعاد، في مواجهة الطائفية وفي مقاومة إسرائيل على حد سواء. وبين هذه وتلك، يعمل الثابت الديني على بناء شخصية المؤمن المؤهل للخروج من أسوار الطائفية الى رحاب الوطن من خلال استعداده للموت في سبيل الوطن المهدد من جنوبه، ومن خلال بناء ثقته بنفسه قبل مباشرة مقاومته لعدو يتفوق عليه بالسلاح والقدرة التقنية والمادية والاعلامية... وبالتالي، فالثابت الديني يبقى بدون معنى اذا لم ينزع من قلب المؤمن أولوية الطائفة ويستبدلها بأولوية الوطن. ويكون ايضا بدون جدوى اذا لم يسلح المؤمن بإرادة المقاومة والشهادة كخيار وحيد في مواجهة القوة الاسرائيلية. لذلك، وفي سياق رده على مواقف اتهامية بالطائفية والمذهبية، يقول الإمام الصدر، مستنكرا الحملات التشكيكية، ان <<الدين وجد لخدمة الانسان... والدين لا يتناقض مع حب الوطن والدفاع عنه... اية طائفية هذه ولمن التحرك الطائفي ونحن نتحرك لله وللوطن... ان أولئك الذين يقولون اننا نحمي طائفتنا ونحمي حقوقنا هم الذين يعملون لخلق الفتن ولتمزيق أوصال الوطن وهم بعيدون عن خدمة الوطن... ان الدفاع عن الوطن وعن حرية الانسان والموت من أجلهما هو دفاع عن الله، وسبيل الله مفتوح لا غموض فيه ولا أوصياء عليه..>>.
وفي هذا السياق، تندرج مفردات الذاكرة الشيعية في خطاب الإمام الصدر بما هي دلالة مضاعفة على اثر الثابت الديني في مبرر وجود المقاومة وفي وسائل استمرارها. ففي حين يجعلها الثابت الديني بمنأى عن التقوقع الطائفي او المذهبي، بحيث يجسد الايمان واجب الدفاع عن الوطن، وجوبا شرعيا تنص عليه الأديان كافة، فإن توسل الذاكرة الشيعية يغذّي الثابت الديني بمقومات إضافية أكثر مما يعبر عن هوية الجماعة التي يخاطبها الإمام الصدر ويدعوها لتأسيس مقاومة لبنانية ضد الخطر الاسرائيلي الشامل.
وبهذا المعنى، لم يكن اختيار المناسبات الدينية، وتحديدا ذكرى عاشوراء، اختيارا اعتباطيا وعاطفيا بقدر ما جاء تعبيرا عن قناعة معمقة بمفاعيل عاشوراء وقدرتها على استنهاض اللبنانيين عامة، والشيعة بشكل خاص، وتوحيدهم حول خيار المقاومة. ففي مواجهة الاختلال الكبير في موازين القوى القائمة بين لبنان وإسرائيل، استرجع الإمام الصدر جدلية الصراع بين الحق، مع قلة أهله، والباطل مع قوة أهله، وموقع الشهادة كسلاح فاعل وقادر على إقامة التوازن وصنع الانتصار اللاحق. ووحدها الشهادة المتدفقة من موقف الحسين في كربلاء تؤسس لإرادة المقاومة والتضحية وسط موازين غير متكافئة.
يقول الإمام الصدر، في مناسبة عاشوراء في نداء نشرته جريدة السفير بتاريخ 12 كانون الثاني 1976، <<ان المعادلات التي تدرس في موازين القوة العسكرية وفي حسابات الربح والخسارة تختل جميعا عندما يدخل عنصر الشهادة في الميدان، ان الشهادة تحول الفرد الى سلاح لا يقهر وتجعل الشهيد ينبوعا متدفقا يهز الجميع ويحرك الانسان وضميره وطاقاته في كل مكان...>>.
وبالتالي، فالشهادة لا تكتفي بقدرتها على تمكين المقاومة من تجاوز عقدة الاختلال في موازين القوى، وانما تعطي مشروعية لذاتها بتعبيرها عن إرادة الدفاع عن الحق الوطن ضد الباطل إسرائيل. وفي هاتين القدرة والمشروعية ينزف الدم في موقعه الصحيح وينتصر، في نهاية المطاف، على السيف.
عندما أسس الامام الصدر مقاومة على خطاب ينهل من انموذجية الشهادة الحسينية، كان يدرك تماما دقة هذا الخطاب وتحديدا لجهة استحضاره للأهداف التي سعى اليها الحسين (ع) بواسطة الشهادة بوصفها الخيار الحاسم والقادر على نسف مرتكزات الباطل وجبروت جيشه. وبالتالي، فالخطاب يرجع الى دروس الحدث الكربلائي أكثر مما يؤشر الى تخصيص سامعيه بطائفة او مذهب، اذ يدفع الخطاب اللبنانيين دفعا حثيثا نحو الخيار الذي ظهر وحيدا في تعبيره عن الوسيلة الكفيلة بإنقاذ الوطن كله من مخاطر المشروع الاسرائيلي. وكونه كذلك، أي خيارا وحيدا، قرر الإمام الصدر نفسه الإقدام عليه، وشجع مؤيديه على الالتحاق بقافلة الحسين (ع) من خلال انخراطهم في المقاومة اللبنانية ضد اسرائيل.
فإذا كانت نواة هذه المقاومة أكثر تجاوبا مع خطاب الإمام، لأسباب دينية ووطنية ومجتمعية، فإن رهان الإمام الصدر على تجاوز <<شيعيتها>> كان كبيرا، ليس فقط لأنه كان رافعة دخول <<الشيعية>> الى الوطن، وليس فقط لأنه وضع مصير الوطن فوق حقوق الطائفة وسعى جاهدا لإبعادها عن مسالك الحرب الاهلية، وانما ايضا لأنه أعطى للمقاومة ثوابت وأهدافا أكثر مصداقية في تمثيلها للمصلحة الوطنية العليا وأكثر قدرة على توحيد اللبنانيين حول مصيرهم المشترك.
ولم يذهب رهانه سدى. فقد استرجع اللبنانيون مضامين خطابه المتواصل منذ اواخر الستينيات، واكتشفوا صحة رؤيته للمشروع الاسرائيلي، فالتأموا في مقاومة وطنية ضد الاحتلال الذي أعقب اجتياح العام 1982، وبدأوا مسيرة الرهان على المقاومة بعد ان أثبتت انها خيار لبنان كله وقوته وسر انتصاره اللاحق على الاحتلال الاسرائيلي. وفي هذا السياق فقط، تندرج انموذجية الالتحاق بقافلة الحسين التي جعلت لبنان كله قادرا على الصمود والمقاومة قادرة على التضحية وصولا الى الانتصار. لذلك كله، لم يكن عبثا توصيف شهادة الدفعة الاولى من المقاومة في صورة التحاق بقافلة الحسين، ولم تكن بدون دلالة او جدوى عبارة <<كونوا مؤمنين حسينيين>> التي كتبها الشهداء الاوائل بدمائهم، بقدر ما أرادت تأسيس الطريق الذي ينبغي على اللبنانيين سلوكه في مقاومتهم ضد اسرائيل. وهو الطريق الذي قرر الإمام موسى الصدر سلوكه وجعله معنى لحياته وغاية لخطابه وترجمة عملية لمسؤوليته تجاه الوطن، تماما مثلما أراد من ثوابت خطابه ان تكون هوية للمقاومة والوطن في آن معا.
واذا كانت المقاومة قد انتصرت، بهويتها وأهدافها والثوابت، في 24 أيار عام 2000، فإنها كانت عمليا، قد باشرت مسيرتها نحو الانتصار الحتمي منذ اللحظة التي سمع فيها الإمام الصدر صرخة الوطن الباحث عن ناصر ينصره، وقرر الاستجابة لنداء الوطن فالتحق بقافلة الحسين، وتمثل به خيارا وغاية وسلوكا ومصيرا. وها هو مؤسس المقاومة وملهم انتصارها يصرخ من ظلمات سجنه عن ناصر ينصره، صرخة لم تتوقف منذ ثلاثة وعشرين عاما، ولما تصل بعد الى الآذان..
ثوابت المقاومة وهوية الانتصار
تستمد المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي أهم مقومات وجودها من الجهد الهائل الذي بذله الإمام موسى الصدر، ليس فقط من خلال دعوته المتواصلة للتدريب على السلاح واقتنائه واستعماله في مواجهة الاعتداءات الاسرائيلية، تمهيدا لتحويل هذه الدعوة الى عمل منظم تتوافر فيه شروط الاستمرارية والانتصار، وانما ايضا من خلال الثوابت الاهداف الكامنة في خطابه حول المقاومة ضد اسرائيل.
كما ان فكرة المقاومة نفسها لم تقتصر على الاعمال العسكرية بقدر ما تضمنت دعوة الى تأسيس مقاومة مدنية، شاملة ميادين الممانعة كافة، فقد كانت اختزالا لقناعة عميقة باستحالة تأسيس مقاومة مسلحة بدون بناء مجتمع مقاوم تخرج من رحمه ويرفدها بقدرة التواصل والمثابرة وتحمل التضحيات. وحده المجتمع المقاوم ينتج مقاومة.
لذلك، فإن إصرار الامام الصدر على ضرورة قيام مجتمع مقاوم وصامد وصابر ورافض لكل أشكال التعامل او اليأس او الاستسلام للقدر، كان الوجه الآخر غير المعلن، لإصراره على تأسيس مقاومة مسلحة ضد اسرائيل في جنوب لبنان.
وبعد ان أعلن بمناسبة ذكرى عاشوراء في 2 شباط 1974 في بلدة ياطر الحدودية، اننا <<نحن حفظة لبنان>> وانه هو <<الشيخ المريض مستعد ان أحمل البندقية وأقف معكم على الحدود>>، انتظر عاشوراء العام 1975 لكي يطلق دعوته لتشكيل مقاومة لبنانية. ففي 20 كانون الثاني 1975 وفي خطابه بمناسبة ذكرى عاشوراء في الكلية العاملية في بيروت أعلن الإمام السيد موسى الصدر فكرته بوضوح قائلا: <<... هل الخوف من اعتداءات اسرائيل لا يتطلب منا الاستعداد للمعركة وحمل السلاح؟ هل يحتاج الدفاع عن النفس الى الاستشارات والتفلسفات والتجريدات؟ اذا لم تدافع السلطة عن الناس فلتتركهم يدافعون عن أنفسهم بسلاحهم، كما فعل عدد من الأبطال في الطيبة فأعطوا بريق أمل ورؤية جديدة... إسرائيل تدبر لنا المؤامرات ونحن نحزن الحزن المترف. واجب الانسان، كل إنسان أرادت السلطة أم لم ترد، ان يتدرب ويتسلح كعلي بن أبي طالب والحسين بن علي، واذا لم يجد استعمال السلاح فذلك انحراف عن خط علي والحسين. واجب كل مواطن وأقولها بلسان الحسين ان يقاتل، واجبنا ان نكوّن مقاومة لبنانية قبل ان نشرد في أراضينا... على كل شاب ان يتدرب ويحمل السلاح لتأسيس مقاومة لبنانية تلقن العدو درسا، واذا مات منا عشرة ومنهم واحد فهذا عظيم.. الدفاع عن الوطن ليس واجب السلطة وحدها، واذا تخاذلت السلطة فهذا لا يلغي واجب الشعب في الدفاع... حركة الحسين لا تربي أذلاء بل تربي أبطالا يرفضون السكوت على الظالم، نحن لا نقبل ان تبقى أرضنا بلا دفاع، وعلى الحكومة ان تعلن موقفها. إما ان تدافع او لا تدافع، والمسؤول الذي لا يعمل على حفظ لبنان فليجلس في بيته. هذه مطالبنا ولسنا مستعدين لدفع ثمن المعادلات السياسية. ولن ننتظر اميركا او الاتحاد السوفياتي او الدول العربية لتدافع عنا. انهم سيدافعون عنا فقط عندما نبدأ القتال. اول رصاصة تنطلق من بنادقنا ستغير المعادلات الداخلية والخارجية. فلنقف على أرجلنا ونتسلح ونشكل مقاومة لبنانية..>>.
لا تكتفي مضامين هذا الخطاب بإظهارها عزم الإمام على تشكيل مقاومة لبنانية، وانما تحدد أيضا الثوابت الكامنة فيها. فالثابت الوطني تدل عليه <<لبنانيتها>> ومبرر قيامها في الدفاع عن الوطن. فهي لبنانية خالصة تحميها غايتها الوطنية من منازعات الطوائف على قدر ما تشجعهم على الوحدة من أجل الوطن بعد وضوح التلازم المصيري بين لبنان وجنوبه. والثابت الديني جاء واضحا ببعده التعبوي كما بوجوبه الشرعي. ولم يكن التمثل بالحسين تخصيصا للشيعة عن سواهم بقدر ما جاء وضعا للإيمان في سياقه الصحيح، سياق مواجهة الظالم وليس سياق التعبد المعزول عن مفاعيله في الجهاد ضد عدو للدين والوطن معا.
وقد أعاد الامام الصدر التذكير بهذه الثوابت خلال إعلانه ولادة أفواج المقاومة اللبنانية التي باشر تأسيسها السري منذ 1973 قبل انكشافها إثر انفجار لغم أثناء التدريب في عين البنية في 5 تموز 1975، ذهب ضحيته 27 شهيدا و43 جريحا كانوا في عداد إحدى مجموعات التدريب السري لهذه المقاومة.
وقد لازمت هذه الثوابت تاريخ المقاومة ضد إسرائيل منذ لحظة إعلان ولادتها الى يوم انتصارها في 24 أيار عام 2000، وهي الثوابت التي رأى اليها الإمام الصدر بما هي شروط للاستمرارية والانتصار، بحيث يكون الانحراف عنها الى حسابات وسياسات فئوية عائقا لها واستنزافا للمقاومة واستدراجا لها في متاهات تُبقي إسرائيل على احتلالها وتُبقي لبنان في مهب الريح.
وفي مقابل هذه الثوابت التأسيسية والاستراتيجية وتعبيرها عن هوية المقاومة، منذ إعلان ولادتها عام 1975 وتحقق انتصارها عام 2000، فإن الانتصار نفسه وهوية صانعيه وأثرهما العاجل والآجل، في الداخل والخارج، كانت من العوامل التي أثارت هواجس ثقافية كانت كامنة في مواقف الجماعات الاهلية والسياسية في لبنان من المقاومة في بعديها الاهلي والايديولوجي.
وفي حين يعبّر السجال عن اهتمام بالبعد الثقافي للمقاومة، فإن هاجس المتساجلين لم يتمكن من تورية قلق مقيم من تداعيات الانتصار وانسحابه على موازين قوى أهلية وسياسية وثوابت موصولة بعصبيات حزبية وطائفية وايديولوجية... وفي هذا السياق تندرج وجهات نظر منفلتة من عقالها، واحدة تروج لإمساك حزب الله بالقرار الشيعي، وثانية تهوّل من شيعية الانتصار ومفاعيله على التوازن الطائفي، وثالثة تبحث عن كفن ملائم لأيديولوجيات علمانية ويسارية أمعنت <<إسلامية>> المقاومة في كشف عزلتها والعورات...
وباستثناء مقالات ذات صلة عضوية بالمقاومة نفسها، فإن أصحاب وجهات النظر هذه، على تعدد مشاربهم والغايات، اجتمعوا على حاجاتهم الى عزل الانتصار عن جذوره الفكرية وعن ثوابت البعد الوطني الغالب في عوامل تأسيس وجهاد وانتصار المقاومة. وبالتالي، فإن وقف المقاومة على جماعة أهلية وإدراجها في التنافس الطائفي والتوازنات الاقليمية، ينذر بالنكوص الى نفس اللغة التهويلية والتشكيكية التي رافقت خطاب المقاومة ومؤسسها كنقيض لخطاب الحرب الاهلية. وهو نكوص يهدد بتجريد الانتصار على الاحتلال الاسرائيلي من أهم أبعاده، لا سيما البعد المتصل بالوطن بما هو انتماء الى هوية وطنية جامعة أقوى من الطوائف وضرورة لها وللدولة التي تديرها، والبعد المتمثل في الانتماء الى هوية عربية تعيد الدور المميز للبنان في محيطه العربي بعد استئصال اللغم الاسرائيلي الذي طالما أمعن في تعميق انقساماته الاهلية وتعطيل دورة حياته وأنموذجية رسالته التعددية في المنطقة والعالم، إضافة الى البعد الاسلامي بما هو انتماء مشروع الى هوية دينية وجدت في ثوابتها الفكرية والمعتقدية تجسيدا وتعميقا لحاجة اللبنانيين الى وطن جامع ودولة واحدة وعادلة في تدبيرها أمور المجتمع الطوائفي، بحيث يكون البعد الديني تعبيرا عن انتماء وطني غير ملتبس او منقوص او منعزل في عصبية طائفية او مناطقية، تماما مثلما هو تجسيد للإيمان في إرادة قادرة على تحويل الضعف الى قوة، حيث تظهر الهوية الدينية، تحديدا، في إقبال المؤمنين على الشهادة التي بواسطتها تتوازن القوى غير المتكافئة أصلا، وتفسّر وحدها سر انتصار الدم على السيف..
هذه الأبعاد ذات الصلة بالهوية والثوابت كانت حاضرة وحاسمة في خطاب الإمام الصدر حول المقاومة اللبنانية ضد إسرائيل، ولم يعدل فيها التموضع الشيعي لتأسيسها، اذ انه، أي التموضع الشيعي، لم يكن مرغوبا بذاته بقدر ما أفرزته الطبيعة التكوينية للبنان، حيث يظل خطاب الشخص موقوفا على جماعته الاهلية، رغم انه يسعى الى أهداف تتعلق بمصير الجماعات الاهلية كلها بما هي شعب في وطن.
ولم يترك الامام الصدر مناسبة الا وشدد فيها على مخاطر توصيف خطابه بالطائفي والفئوي، حيث أنهكه تكرار الثوابت التي أرادها معنى للمقاومة وغاية وحيدة لها. وفي حين انه، وفي قرارة نفسه، كان يدرك <<شيعية>> التجاوب، فإن طموحه ظل قائما على أمل الوصول الى تجاوب <<لبناني>> بحجم المقاومة ومبرر وجودها. وقد تمثل هذا الطموح في خطاب متواصل تجتمع فيه ثوابت الوطنية والقومية والدين بصورة تكاملية وعضوية، حيث تجمع المقاومة ما تفرقه الطائفية وما في معناها...
وبهذا المعنى، أراد الإمام الصدر ان تكون هوية المقاومة التي يدعو الى تأسيسها قائمة على هذه الثوابت، حتى وان اقتضى الامر تأسيسها على نصاب شيعي. فالثوابت وحدها كفيلة بأن ترقى بها من <<شيعية>> التأسيس الى <<لبنانية>> الاستمرار والانتصار.
وفي هذا السياق ايضا، وضع الإمام الصدر الوطن والبعد الوطني في مقدمة الثوابت والاهداف التي ينبغي ان تتأسس عليها المقاومة وتسعى الى تحقيقها. ذلك <<ان الوطن يجب ان يبقى، ولا يحل محل الوطن شيء وان الانسان لا معنى لوجوده في هذا العصر دون وطن>>، كما ان <<الالتزام المطلق بالوطن هو إكمال للانتماءات القومية والدينية والاممية ولا يتناقض معها إطلاقا...>>.
كما كتب الإمام في مقالة اخرى منشورة في مجلة <<صوت المحرومين>> الصادرة بتاريخ كانون الاول 1976.
وتأتي عروبة لبنان امتدادا للثابت الوطني وتحصينا له، لا سيما ان <<محنة لبنان هي في محاولات عزله المستمرة عن العالم العربي، وهو امتداده الحقيقي القومي>>، أما علاج هذه المحنة، برأي الإمام الصدر، فإنه يتطلب <<إعادة دوره القومي اليه في مواجهة اسرائيل، وفي المشاركة الفعالة في المجال العربي>>.
أما الثابت الديني فقد انفرد الإمام الصدر في تبيان أهميته المتعددة الابعاد، في مواجهة الطائفية وفي مقاومة إسرائيل على حد سواء. وبين هذه وتلك، يعمل الثابت الديني على بناء شخصية المؤمن المؤهل للخروج من أسوار الطائفية الى رحاب الوطن من خلال استعداده للموت في سبيل الوطن المهدد من جنوبه، ومن خلال بناء ثقته بنفسه قبل مباشرة مقاومته لعدو يتفوق عليه بالسلاح والقدرة التقنية والمادية والاعلامية... وبالتالي، فالثابت الديني يبقى بدون معنى اذا لم ينزع من قلب المؤمن أولوية الطائفة ويستبدلها بأولوية الوطن. ويكون ايضا بدون جدوى اذا لم يسلح المؤمن بإرادة المقاومة والشهادة كخيار وحيد في مواجهة القوة الاسرائيلية. لذلك، وفي سياق رده على مواقف اتهامية بالطائفية والمذهبية، يقول الإمام الصدر، مستنكرا الحملات التشكيكية، ان <<الدين وجد لخدمة الانسان... والدين لا يتناقض مع حب الوطن والدفاع عنه... اية طائفية هذه ولمن التحرك الطائفي ونحن نتحرك لله وللوطن... ان أولئك الذين يقولون اننا نحمي طائفتنا ونحمي حقوقنا هم الذين يعملون لخلق الفتن ولتمزيق أوصال الوطن وهم بعيدون عن خدمة الوطن... ان الدفاع عن الوطن وعن حرية الانسان والموت من أجلهما هو دفاع عن الله، وسبيل الله مفتوح لا غموض فيه ولا أوصياء عليه..>>.
وفي هذا السياق، تندرج مفردات الذاكرة الشيعية في خطاب الإمام الصدر بما هي دلالة مضاعفة على اثر الثابت الديني في مبرر وجود المقاومة وفي وسائل استمرارها. ففي حين يجعلها الثابت الديني بمنأى عن التقوقع الطائفي او المذهبي، بحيث يجسد الايمان واجب الدفاع عن الوطن، وجوبا شرعيا تنص عليه الأديان كافة، فإن توسل الذاكرة الشيعية يغذّي الثابت الديني بمقومات إضافية أكثر مما يعبر عن هوية الجماعة التي يخاطبها الإمام الصدر ويدعوها لتأسيس مقاومة لبنانية ضد الخطر الاسرائيلي الشامل.
وبهذا المعنى، لم يكن اختيار المناسبات الدينية، وتحديدا ذكرى عاشوراء، اختيارا اعتباطيا وعاطفيا بقدر ما جاء تعبيرا عن قناعة معمقة بمفاعيل عاشوراء وقدرتها على استنهاض اللبنانيين عامة، والشيعة بشكل خاص، وتوحيدهم حول خيار المقاومة. ففي مواجهة الاختلال الكبير في موازين القوى القائمة بين لبنان وإسرائيل، استرجع الإمام الصدر جدلية الصراع بين الحق، مع قلة أهله، والباطل مع قوة أهله، وموقع الشهادة كسلاح فاعل وقادر على إقامة التوازن وصنع الانتصار اللاحق. ووحدها الشهادة المتدفقة من موقف الحسين في كربلاء تؤسس لإرادة المقاومة والتضحية وسط موازين غير متكافئة.
يقول الإمام الصدر، في مناسبة عاشوراء في نداء نشرته جريدة السفير بتاريخ 12 كانون الثاني 1976، <<ان المعادلات التي تدرس في موازين القوة العسكرية وفي حسابات الربح والخسارة تختل جميعا عندما يدخل عنصر الشهادة في الميدان، ان الشهادة تحول الفرد الى سلاح لا يقهر وتجعل الشهيد ينبوعا متدفقا يهز الجميع ويحرك الانسان وضميره وطاقاته في كل مكان...>>.
وبالتالي، فالشهادة لا تكتفي بقدرتها على تمكين المقاومة من تجاوز عقدة الاختلال في موازين القوى، وانما تعطي مشروعية لذاتها بتعبيرها عن إرادة الدفاع عن الحق الوطن ضد الباطل إسرائيل. وفي هاتين القدرة والمشروعية ينزف الدم في موقعه الصحيح وينتصر، في نهاية المطاف، على السيف.
عندما أسس الامام الصدر مقاومة على خطاب ينهل من انموذجية الشهادة الحسينية، كان يدرك تماما دقة هذا الخطاب وتحديدا لجهة استحضاره للأهداف التي سعى اليها الحسين (ع) بواسطة الشهادة بوصفها الخيار الحاسم والقادر على نسف مرتكزات الباطل وجبروت جيشه. وبالتالي، فالخطاب يرجع الى دروس الحدث الكربلائي أكثر مما يؤشر الى تخصيص سامعيه بطائفة او مذهب، اذ يدفع الخطاب اللبنانيين دفعا حثيثا نحو الخيار الذي ظهر وحيدا في تعبيره عن الوسيلة الكفيلة بإنقاذ الوطن كله من مخاطر المشروع الاسرائيلي. وكونه كذلك، أي خيارا وحيدا، قرر الإمام الصدر نفسه الإقدام عليه، وشجع مؤيديه على الالتحاق بقافلة الحسين (ع) من خلال انخراطهم في المقاومة اللبنانية ضد اسرائيل.
فإذا كانت نواة هذه المقاومة أكثر تجاوبا مع خطاب الإمام، لأسباب دينية ووطنية ومجتمعية، فإن رهان الإمام الصدر على تجاوز <<شيعيتها>> كان كبيرا، ليس فقط لأنه كان رافعة دخول <<الشيعية>> الى الوطن، وليس فقط لأنه وضع مصير الوطن فوق حقوق الطائفة وسعى جاهدا لإبعادها عن مسالك الحرب الاهلية، وانما ايضا لأنه أعطى للمقاومة ثوابت وأهدافا أكثر مصداقية في تمثيلها للمصلحة الوطنية العليا وأكثر قدرة على توحيد اللبنانيين حول مصيرهم المشترك.
ولم يذهب رهانه سدى. فقد استرجع اللبنانيون مضامين خطابه المتواصل منذ اواخر الستينيات، واكتشفوا صحة رؤيته للمشروع الاسرائيلي، فالتأموا في مقاومة وطنية ضد الاحتلال الذي أعقب اجتياح العام 1982، وبدأوا مسيرة الرهان على المقاومة بعد ان أثبتت انها خيار لبنان كله وقوته وسر انتصاره اللاحق على الاحتلال الاسرائيلي. وفي هذا السياق فقط، تندرج انموذجية الالتحاق بقافلة الحسين التي جعلت لبنان كله قادرا على الصمود والمقاومة قادرة على التضحية وصولا الى الانتصار. لذلك كله، لم يكن عبثا توصيف شهادة الدفعة الاولى من المقاومة في صورة التحاق بقافلة الحسين، ولم تكن بدون دلالة او جدوى عبارة <<كونوا مؤمنين حسينيين>> التي كتبها الشهداء الاوائل بدمائهم، بقدر ما أرادت تأسيس الطريق الذي ينبغي على اللبنانيين سلوكه في مقاومتهم ضد اسرائيل. وهو الطريق الذي قرر الإمام موسى الصدر سلوكه وجعله معنى لحياته وغاية لخطابه وترجمة عملية لمسؤوليته تجاه الوطن، تماما مثلما أراد من ثوابت خطابه ان تكون هوية للمقاومة والوطن في آن معا.
واذا كانت المقاومة قد انتصرت، بهويتها وأهدافها والثوابت، في 24 أيار عام 2000، فإنها كانت عمليا، قد باشرت مسيرتها نحو الانتصار الحتمي منذ اللحظة التي سمع فيها الإمام الصدر صرخة الوطن الباحث عن ناصر ينصره، وقرر الاستجابة لنداء الوطن فالتحق بقافلة الحسين، وتمثل به خيارا وغاية وسلوكا ومصيرا. وها هو مؤسس المقاومة وملهم انتصارها يصرخ من ظلمات سجنه عن ناصر ينصره، صرخة لم تتوقف منذ ثلاثة وعشرين عاما، ولما تصل بعد الى الآذان..