دور رواد الحركة الكشفية في التنمية المستدامة
-
بدءا من الستينات والسبعينات من القرن العشرين، تأكد الوعي الإنساني بوجود مشاكل حساسة تـتصل بعلاقة الإنسان بالطبيعة والبيئة، وضرورة المحافظة عليهما، وخاصة مشكل حماية البيئة من التلوث، وما يتولد عنه من صعوبات، وما ينتج عنه من أعراض الأمراض والأوبئة.
وكانت الشعارات التي عرفها الإنسان المتحضر تركز على وجوب المحافظة على سلامة البيئة وصيانتها لفائدة الأجيال الحاضرة، لكن أيضا لفائدة الأجيال القادمة. وهو ما يضيف مخطط صيانة البيئة إلى مخططات التنمية الشاملة التي أخذ التطلع إلى تحقيقها يتصدر اهتمامات العالم، بل أصبحت شغله الشاغل. مما يمكن معه القول إن عمل الإنسان لتحقيقها تجاوز في العصر الحاضر مجال التنظير إلى البحث عن الوسائل والأدوات التي يتطلبه تحقيقها وإلى إعداد البرامج والمخططات الكفيلة بذلك.
وانبثق عن النقاش المخصص لتحقيق التنمية والبحث عن طرائق تحقيقها وخياراتها وأسبقياتها توجه وفاقي على تحديد مفهوم التنمية أولا، ثم على تحديد مفهوم التنمية المستدامة التي تقوم على مبدأ الاستمرارية ووجوب تحمل مسؤوليتها من لدن الأجيال المتلاحقة جيلا بعد جيل، لتحكُمها المخططات المستـقبلية عملا بقاعدة : "الحاضر يصنع المستقبل". أي أن النقاش العلمي الذي اقتصر في البداية على البحث عن سبل العمل للمحافظة على البيئة ارتفع إلى مستوى البحث عن وسائل تحقيق التنمية الشاملة، فالتنمية المستدامة. وانتقل البحث العلمي عن التنمية من حقل التنظير العلمي إلى وضع مخططات التطبيـق العملي.
وفي بداية هذه المداخلة الممهِّـدة لأعمال هذه الندوة نرى من المناسب التذكير بأن هاجس المحافظة على الأرض والطبيعة والبيئة لم يبتدئ عند الإنسان فقط في منتصف القرن العشرين، بل طُرح هذا الموضوع على النقاش في المجتمعات القديمة، وخاصة منها الإغريقية والرومانية. وأوصى الفلاسفة ورجال البحث العلمي قديما بوجوب المحافظة على البيئة وصيانتها، وربطوا بين ازدهار الطبيعة والازدهار البشري، وقالوا إن الازدهار البشري لا يتحقق إلا في كنف ازدهار الطبيعة والبيئة والمحافظة عليهما.
في القرآن الكريم آيات فصلت القول في علاقة الإنسان بالأرض والبيئة في حديثه عن قضية اختيار الله الإنسان للخلافة عـنه فوق الأرض عندما قال للملائكة في سورة البقرة (2) الآية 30: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة. قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبِّـح بحمدك ونـقـدِّس لك ؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون".
بمقتضى هذه الآية عـلِـم الله أن الإنسان هو أقدر مخلوقاته على إصلاح الأرض وإعمارها، والمحافظة على سلامتها. وجاءت آية أخرى في القرآن لتؤكد أن الأرض يرثها عبادي الصالحون. والمراد الصالحون لإصلاحها وإعمارها والمحافظة عليها. وعندما طعنت الملائكة في أهلية الإنسان (كل الإنسان، أي الجنس البشري في المطلق) لأنه يُـفسد فيها ويسفك الدماء واعتبروا أنهم الأكثر أهلية للقيام بهذه المسؤولية رد عليهم الله قائلا : "إني أعلم ما لا تعلمون". أي أنه يعلم ما يجهله الملائكة عن مدى ما يمتـلكه الإنسان من قدرات تؤهله لإدارة الأرض وإعمارها وتـنميتها بامتياز. وكانت الرؤية الإلهية هي الأصدق. فمنذ آدم إلى اليوم توارثت الأجيال الحاضرة الأرض والطبيعة والبيئة عن الأجيال السابقة مثـلما توارث الآخِـرون عن الأوّلين الازدهار العمراني وتدرُّج البيئة والطبيعة على درب التنمية التي يتـقدم فيها كل جيل أكثر من سابقه، ويتسع حجم ومدى تنميتها من لدن الإنسان بوتيرة سرعة مذهلة بفضل التقدم العلمي والتطور التكنولوجي.
إنما الذي ميز المنتصف الثاني من القرن العشرين في هذا المجال كان بكل تأكيد انطلاقة حركة تضافر جهود البشرية لتحقيق التنمية، وتوفير التنسيق بين الفاعلين في مجال التنمية من حكومات، ومنظمات عالمية، وجمعيات المجتمع المدني، ومن رجال البحث العلمي، والمشاركين من مختلف التخصصات في ندوات التنمية والتنمية المستدامة، ومن حصيلة الندوات والاجتماعات والقمم المنعقدة في موضوع التنمية. وكانت حصيلة عمل هذه الأطراف (أو الشركاء) هي وضع المخططات العلمية لتحقيق التنمية، بحيث أصبحت هذه الحصيلة - على اختلاف مصادرها- المرجعية الأساسية للفاعلين والباحثين والمنظرين والمطبقين على أرض الواقع لبرامج التـنمية على اختلاف مفاهيمها.
وكانت الظاهرة المخيفة التي توقف البحث عندها طويلا هي إذاية الاقتصاد الصناعي (أو المصنـّـع) للطبيعة والبيئة، وتـتجلى في انتشار التـلوث المتولد عن التجهيزات الميكانيكية التي يعمل بها الاقتصاد العالمي، وما يترتب على ذلك من أعراض الأمراض والأوبئة التي تؤذي الإنسان والحيوان، وما يصيب الأرض والطبيعة من التلوث الذي يعرقـل النمو السليم ويصيبهما هما أيضا بالأمراض الخاصة إن صح هذا التعبير. وذلك ما جعل من الاقتصاد المصنـّع عدوا للبيئة، لأنه إن كانت له مردودية إيجابية على تطور الإنسان وتقدمه، فإن إضراره بالطبيعة والبيئة يكون أحيانا وخيما لا يقتصر على الأرض وحدها ولكن أيضا على ساكنتها.
وتلافيا لذلك انعقد على صعيد الاتحاد الأوروبي لقاء أُطلِـق عليه "لقاء المصالحة بين الاقتصاد والبيئة" أو "حماية البيئة من أضرار الاقتصاد". وكان أول هذه اللقاءات سنة 1950 حيث أصدر اجتماع الاتحاد تقريرا عن أعماله بعنوان :"المحافظة على الطبيعة عبر العالم". واعتـُبـِـر هذا التقرير التقرير الرائد الذي طرح لأول مرة مقاربة المصالحة بين الاقتصاد والبيئة والطبيعة.
لكن اشتغال المجتمع الدولي بموضوع البيئة والتنمية لم يبدأ في هذا التاريخ بل في سنة 1915 على يد اللجنة الدولية التي انعقدت بكندا تحت شعار:"المحافظة على البيئة" التي كانت ترادف آنذاك كلمة الطبيعة. وقد أعلنت اللجة الكندية في نهاية الاجتماع عن شعار يقول:"يجب على كل جيل أن يستفيد من الفوائد التي يحققها الرأسمال الطبيعي. ويجب أن يُـسلـَّـم هذا الرأسمال كاملا غير منقوص من جيل إلى آخر".
وفي سنة 1923 انعقد بباريس المؤتمر الدولي للمحافظة على الطبيعة ورفع شعار :"ضرورة المحافظة على الطبيعة والاستعمال العقلي للموارد".
وفي سنة 1948 انعقدت بفونتين بلو ندوة اليونيسكو لإنشاء منظمة الاتحاد الأوروبي للمحافظة على الطبيعة. وأصدر نادي روما سنة 1970 تقريرا بعنوان :"مفهوم التنمية في درجة الصفر". وفي سنة 1972 صدر عن منظمة الأمم المتحدة في اجتماعها باستوكهولم للبيئة البشرية برنامج الأمم المتحدة للبيئة. وكان محوره الأساسي : "الإنسان والبيئة"، وبعد انعقاده ابتدأ عبر العالم في حكومات الدول المتحضرة تأسيس وزارات خاصة بالبيئة.
ثم تطورت البحوث النظرية التي أعدتها هذه اللقاءات الدولية إلى إعداد دراسات إستراتيجية، تألف منها ما سمي بالإستراتيجية الدولية للتنمية. وتبلورت هذه الجهود أكثر بإنشاء المركز الدولي للبحث في البيئة والتنمية الذي انطلقت أعماله في غضون سنة 1973. وفي سنة 1980 صدر عن الاتحاد الدولي للمحافظة على الطبيعة تقرير تضمن "الإستراتيجية العالمية للمحافظة". وهو المعروف بتقرير "براندطلاند" الوزير الأول النرويجي. وكان عنوان هذا التقرير : "الأسئلة الشاملة تتطلب أجوبة شاملة".
ركزت وثيقة الاستراتيجية العالمية للمحافظة على الطبيعة، لكنها أعطت الأسبقية للتركيز على إزالة التناقض الذي كان يُـتحدث عنه من قبلُ بين المحافظة على الطبيعة وبين التنمية الاقتصادية. وأسست هذه الوثيقة لأول مرة لمفهوم التنمية المستدامة انطلاقا من التحليل الذي يقر بوجود علاقة وطيدة تربط بين الاقتصاد والبيئة (أو علاقة ترابط تحكم بينهما). وكان التقرير الأول المنبثق عن نادي روما سنة 1970 يحمل عنوان :"كفى من النمو". وهو ما فجر نقاشات حادة بين المناضلين البيئيين : بين أنصار إبقاء النمو في درجة الصفر، وبين جبهة الدعوة إلى مواصلة دفع النمو إلى أقصى حد مهما كان الثمن والعواقب.
وأول محاولة للتوفيق بين النزعتين جاءت في ندوة الأمم المتحدة حول البيئة البشرية بستوكهولم سنة 1972 بطرح مفهوم جديد للتنمية يأخذ بالاعتبار وجوب ملاءمة التنمية للبيئة، أي تنمية تحترم البيئة وتولي عناية خاصة للتسيير الفعال للموارد الطبيعية، بل حتى جعل التنمية الاقتصادية ملائمة للعدالة الاجتماعية.
وقد صدر عن أعمال ندوة ستوكهولم تحديد خمسة أهداف لابد من الوصول إليها لتحقيق الملاءمة بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وهي :
(1) مراقبة حذِرة للبيئة لتلافي وتوقي الإضرار بها.
(2) التحكم في استعمال الموارد البشرية بالعدل.
(3) تـوظيــف تـقـنـيات "نظيـفة" تـتحكم في إنتاج النـُّــفايات
وفي استعمال الملوِّثات.
(4) حصر معقول للنشاطات الاقتصادية.
(5) تكـيـيـف أسالـيـب الاسـتهـلاك مـع العــوائــق البـيـئـيــة
والاجـتـماعـية. وهـو ما يعنـي- بـعـبـارة أخرى- اخـتيار
الأفضلية للحاجيات على حساب تزايد الطلب.
وفي الثمانينات من القرن العشرين انتقل النقاش العالمي من مرحلة التـنمية إلى مرحلة التنمية المستدامة بتحديد مفهومها القاضي بجعلها متسمة بالديمومة والاستمرار، وذلك باستهداف خدمة المجتمعات المتلاحقة جيلا بعد جيل، وإبعاد مفهومها عن الانحباس في بعد الزمن الحاضر الذي يذوب في مفهوم الزمن المتجدد الذي لا يتوقف. وهكذا تحولت التنمية المستدامة من اعتبارها نظرية تبحث عن محدِّداتها إلى مبدأ أساسي تقوم عليه السياسات العمومية سواء على المستوى الوطني أو الدولي. وهو ما جعل مخططات التنمية التي صدرت عن الفاعلين في حقلها تـُعتبر مجرد جسر واصل ومؤدي إلى المستقبل قائم الحضور ودائم التجدد.
وفي سنة 1992 انعقدت قمة "ريو دي جانيرو" حول التنمية والبيئة. وصدر عنها التقرير النهائي الذي أصبح يُعرف بمفكرة (أو أجاندة) (أو العمل) رقم 21. وهي تتضمن اتفاق القمة حول التنمية الملائمة للبيئة، والاتفاق الإطار حول التغييرات المناخية. وقد دُعِـيت هذه القمة بقمة الأرض. واحتوت المفكرة 21 على 2500 توصية تألف منها برنامج شامل متكامل للتنمية المستدامة يطبق خلال القرن الواحد والعشرين.
لكن اجتماع الأمم المتحدة بنيويورك ما بين 23 و 27 يونيه 1997 الذي تدارس حصيلة تطبيقات المفكرة سالفة الذكر لاحظ أن هذه المفكرة لم تعرف طريقها إلى التطبيق، وأن رؤساء الدول الحاضرين لم يتفقوا على إصدار بيان مشترك يحدد السياسة العامة المشتركة للتنمية.
وكان أكبر اجتماع عالمي عُـرف إلى اليوم منذ بداية القرن الواحد والعشرين هو الاجتماع الذي انعقد من نهاية أبريل إلى 9 مايو 2003 وخُصص لمناقشة برامج التنمية المستدامة، وشاركت فيه الحكومات، والمنظمات العالمية، والمنظمات الوطنية غير الحكومية، ووكالات الأمم المتحدة، والقطاع الخاص. وتميز بحضور الوزراء المكلفين بحقائب التنمية، والمياه، والفلاحة (الزراعة)، والطاقة. وكان جدول أعماله يحتوي من بين محاوره على محور:مناقشة ما تم تحقيقه فيما يخص التنمية المستدامة منذ اجتماع مؤتمر "جوهانسبوغ" الذي انعقد سنة 2001.
وقد لاحظ المجتمعون في هذه المؤتمرات أن تقدم التنمية المستدامة بطئ، بل وُصف بأنه مخـيِّـب للآمال، وأن مستوى الإرادة السياسية للفاعلين في حقل التنمية غير متكافئ. ولذا تقرر أن تعقد اللجنة الأممية للتنمية المستدامة اجتماعا متخصصا في التنمية كل سنة، يقوم باستعراض حصيلة العمل السنوي ويعطي الخطوط التوجيهية لضبط أسلوب تطبيق المنهج المتجدد كل سنة.
ويواجه المخطط العالمي للتنمية المستدامة صعوبات وتحديات : في طليعتها الجواب الصحيح على السؤال الخطير التالي: كيف يتحقق تحسين مستوى العيش البشري والمحافظة على الموارد الطبيعية في عالم يشهد نموا سكانيا ويتزايد فيه الطلب على الغذاء والماء والسكن والطاقة والخدمات الصحية والأمن الغذائي والأمن الاقتصادي ؟ وعلى هذا السؤال الآخر الذي لا يقل خطورة: ألم يأن الأوان أن يعيد سكان الأرض النظر في أنماط الاستهلاك وإنتاجها، وأن تلتزم الأقطار العالمية بالنمو الاقتصادي المتوازن الذي تـتـقارب على الأقل فيه التفاوتات المجتمعية، وأن تـنفتِــح الأقطار الغنية المتقدمة على أقطار الاقتصاد البدائي (أو المتعثر) لتقدم الأولى للثانية المزيد من الخبرات والتكنولوجيا المتقدمة، والمزيد من الموارد المساعدة على تطوير وضعها الاقتصادي وتحسين أداء اقتصادها ؟
والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي بين سكان العالم الذي يتمثـل في الفارق المشين بين الشمال والجنوب هو أكبر تحد تواجهه برامج التنمية المستدامة. والإحصائيات المعبرة عن تفاوت الأوضاع بين عالم الغنى المتميز بالرفاهية والبذخ الزائد، وعالم الفقر الذي يشكو من الجوع والبطالة والإقصاء والتهميش تـُـقـدِّم لنا صورة سوداء عن ما يفصل عالم الشمال عن عالم الجنوب. وهي تقول : إن 20 % فقط من سكان الأرض هم الذين يستهلكون الموارد الطبيعية ويستفيدون من خيراتها. وأن مليارين من سكان الأرض البالغ عددهم 6 مليارات هم وحدهم الذين يتمتعون بالماء والكهرباء.
وتقدر منظمة الصحة العالمية أن النوعية السيّـئة للبيئة تـُسبّـب 25% من مجموع الأمراض التي يمكن الوقاية منها في العالم اليوم. وقد وصلت المناقشات الدولية على صعيد الأمم المتحدة إلى الإجماع على أن الأمراض المتصلة بالبيئة تشكل تهديدا خطيرا ومباشرا لصحة الإنسان. وأن من الضروري اتخاذ عدد من التدابير لتوقي أخطارها. وفي طليعتها توفير إمكانيات الحصول على مياه الشرب المأمونة، وتوسيع نطاق التكنولوجيات الأساسية للتطبيب والعلاج، والتخلص من النـُـفايات والملوِّثات، وتحسين نوعية الهواء في المناطق الحضرية.
والإحصائيات تقول أيضا إن واحدا من كل خمسة من البشر لا يستطيع الحصول على مياه الشرب النظيفة، وإن الضغط الواقع على موارد المياه يزداد مطردا بفعل زيادة الطلب البشري للماء الشـَّــروب.
وفي ندوة صحفية عقدها في الثاني والعشرين من أبريل 2004 (الشهر المنصرم) "جيم وولفو صوهن" رئيس البنك الدولي قال إنه :" يأسف لكون العالم أصبح يُعـبَّـأ ضد الإرهاب، ومن أجل إعطاء الشرعية الدولية لحرب العراق، وللحديث المُـمِّــل عن التنمية، ومحاربة الفقر، والانتخابات الرئاسية الأميريكية، في غفلة عن واقع الأقطار المتطلعة للنمو، بينما مشاكل هذه الأقطار ليست أجنبية ولا غريبة عن مشاكل العالم الكبرى. وزاد يقول:"ونحن نعتقد بكل إخلاص أنه لا يمكن تحقيق السلم وتوفير الاستقرار دون أن نعالج مشكلة الفقر في العالم. لكن المؤسف أن مشاكل العالم الفقيرة ليست من المشاكل "المتفجرة. لذا لا يتحدث العالم عنها إلا قليلا، ولا يتحرك من أجلها إلا نادرا".
إن الوعود التي قطعتها الدول الغنية الكبرى بتخصيص مبالغ مالية للعالم المتخلف لم يقع الوفاء بها وكان مبلغها قد قدربـ 300 مليار كل سنة، لكن ذلــك لم يتحـقـق إذ لم يـتجاوزما قدمته ما بين 50 و60 مليارا. وذلك في الوقت الذي تبلغ نفقات الدول الغنية الكبرى في المجال العسكري وتطوير الأسلحة الحربية 800 مليار دولار سنويا.
لتسريع تحقيق التنمية المستدامة أوصت المنظمات الدولية المختصة بفسح المجال لحركة الاستثمارات بدون حدود ولا قيود. وهذه هي القاعدة الأساس في مجال عولمة الاقتصاد. وقالت عن ذلك إن هذا الانفتاح هو أمل الانتقال نحو التنمية المستديمة. ومن المؤكد أن وفرة الاستثمارات تتيح للمستفيد منها تحولات هامة للأموال والتكنولوجيا، وتساهم في تحسين مستوى أداء المقاولات. لكن لم يضع المجتمع الدولي لها ضوابط وقواعد تلتزم بها مما يجعل بعض الاستثمارات التي تقوم بها مقاولات غير نزيهة تستغل بجشع الموارد الطبيعية والبشرية في الدول السائرة في طريق النمو، وتؤوّل التدابير الحمائية التي تمنحها لها الدول المحتاجة إلى الاستثمارات على أنها إذن وتفويت لها يسمح للاقتصاد الوارد بالهيمنة على الاقتصاد الأهلي المقيم وابتلاعه.
ويطول حجم هذه المداخلة لو حاولنا طرح التحديات التي تواجهها برامج التنمية ورصد البون الشاسع الذي يفصل التنظير عن التطبيق. ذلك لأن بيئة العالم لا تزال هشة جدا، والتدابير المنتظر اتخاذها للحفاظ عليها بعيدة عن أن تكون كافية كما قال عن ذلك الأمين العام "كوفي عنان" في تقريره عن تطبيق أجندة 21 عن التنمية المستدامة. وأضاف يقول :" لقد تم تحقيق تقدم طفيف جدا في مجال الحد من الفقر في بعض الدول النامية. والعولمة بحد ذاتها لم تنفع أكثرية العالم، لكن المحاولات لتعزيز التنمية البشرية ناجحة بشكل عام".
إن هذا الفشل الذي تلاقيه مشاريع التنمية المستدامة في مجال التطبيق لا ينبغي التسليم به على أنه واقع ليس له من دافع، بل ينبغي أن يكون حافزا على إجراء المزيد من الحوار العالمي للتعرف على أسبابه الظاهرة والمعلنة، وعلى ضبط مسؤولية من هم وراءه، وممارسة الضغوط عليهم لتصحيح مسارهم على صعيد التعامل الدولي. كما ينبغي أن يدفع هذا الفشل إلى المزيد من تعبئة جهود الفاعلين في مجال التنمية المستدامة من حكومات ومنظمات ووكالات، وبمساهمة متميزة من مؤسسات المجتمع المدني الذي لا يزال لم يتمكن من لعب دوره الأساسي في عملية التنمية في حين أن عطاءه لن يكون قليلا لو أُنزِل منزلة شريك أساسي. والمجتمع الدولي يتفق اليوم على أن مشاركته أكثر من ضرورية، بل هي أساسية ومحورية.
وضِــمن المجتمع المدني على اختلاف ألوان طيفه تندمج حركة رواد الكشفية الذين تؤهلهم تربيتهم الكشفية للمشاركة في دفع حركة التنمية، بل للاضطلاع فيها بدور متميز، لأن الكشاف يتربى على ثقافة البذل والعطاء بدون حساب ولا مقابل، بل نكران الذات، والاحتساب في العمل، والتضحية بلا حدود، وعلى الإخلاص والتفاني في العمل وإتقانه. ولأنه يتربى ضمن أخلاقيات الكشفية على حب الأرض والتعلق بها والالتصاق بها ويتجاوب معها، بل يتبادل معها أحاسيسها وخلجاتها.
لقد نشأت الحركة الكشفية للمساهمة أساسا في التنمية البشرية : تنمية الشباب للاستفادة من قدراتهم البدنية والعقلية والاجتماعية والروحية كأفراد ومواطنين مسؤولين، وكأعضاء في مجتمعاتهم الوطنية أساسا والمجتمع العالمي عامة. والكشفية تعتمد في برامجها على الممارسة واكتساب المعلومات والخبرات والمهارات، وتساهم في استثمار وقت الشباب وحمايتهم من الوقوع في التردي اللاأخلاقي، وتربيتهم على نبذ التواكل والكسل، وفقد الضمير المهني، وعدم الشعور بالمسؤولية.
وفي ذلك يقول مؤسس الحركة الكشفية الكولونيل البريطاني "بادن باول" في مقدمة كتابه (الكشفية) :"قال بعض المتحمسين إن الكشفية ثورة تربوية، ولكنها ليست كذلك. بل هي فكرة أريد منها تجديد الحياة في الهواء الطلق. وهي مدرسة تـُعِـدّ المتعلم فيها للعمل النشيط في الحياة العامة :" ويمكن أن نضيف إلى ذلك أنها نظام يربي الناشئة على الارتباط بصداقة حميمية مع الأرض والطبيعة والإنسان، ويتعلم المتربَّى في أحضانها الاعتماد على النفس، وقوة الملاحظة، ودقة الانتباه، وخصال الوفاء والأمانة والشجاعة والصبر، وخدمة الإنسان أينما وجد.
وعلى ذلك فالتنمية المستدامة في حاجة إلى أذرعة هذا النوع من المواطنين وعقولهم وأخلاقهم. وخاصة إلى السلاح الذي ينفردون ويتميزون بامتلاكه : سلاح المعاناة والمصابرة وقوة الضمير المهني والاستعداد الدائم. و"الكشاف دائما مستعد".
-
بدءا من الستينات والسبعينات من القرن العشرين، تأكد الوعي الإنساني بوجود مشاكل حساسة تـتصل بعلاقة الإنسان بالطبيعة والبيئة، وضرورة المحافظة عليهما، وخاصة مشكل حماية البيئة من التلوث، وما يتولد عنه من صعوبات، وما ينتج عنه من أعراض الأمراض والأوبئة.
وكانت الشعارات التي عرفها الإنسان المتحضر تركز على وجوب المحافظة على سلامة البيئة وصيانتها لفائدة الأجيال الحاضرة، لكن أيضا لفائدة الأجيال القادمة. وهو ما يضيف مخطط صيانة البيئة إلى مخططات التنمية الشاملة التي أخذ التطلع إلى تحقيقها يتصدر اهتمامات العالم، بل أصبحت شغله الشاغل. مما يمكن معه القول إن عمل الإنسان لتحقيقها تجاوز في العصر الحاضر مجال التنظير إلى البحث عن الوسائل والأدوات التي يتطلبه تحقيقها وإلى إعداد البرامج والمخططات الكفيلة بذلك.
وانبثق عن النقاش المخصص لتحقيق التنمية والبحث عن طرائق تحقيقها وخياراتها وأسبقياتها توجه وفاقي على تحديد مفهوم التنمية أولا، ثم على تحديد مفهوم التنمية المستدامة التي تقوم على مبدأ الاستمرارية ووجوب تحمل مسؤوليتها من لدن الأجيال المتلاحقة جيلا بعد جيل، لتحكُمها المخططات المستـقبلية عملا بقاعدة : "الحاضر يصنع المستقبل". أي أن النقاش العلمي الذي اقتصر في البداية على البحث عن سبل العمل للمحافظة على البيئة ارتفع إلى مستوى البحث عن وسائل تحقيق التنمية الشاملة، فالتنمية المستدامة. وانتقل البحث العلمي عن التنمية من حقل التنظير العلمي إلى وضع مخططات التطبيـق العملي.
وفي بداية هذه المداخلة الممهِّـدة لأعمال هذه الندوة نرى من المناسب التذكير بأن هاجس المحافظة على الأرض والطبيعة والبيئة لم يبتدئ عند الإنسان فقط في منتصف القرن العشرين، بل طُرح هذا الموضوع على النقاش في المجتمعات القديمة، وخاصة منها الإغريقية والرومانية. وأوصى الفلاسفة ورجال البحث العلمي قديما بوجوب المحافظة على البيئة وصيانتها، وربطوا بين ازدهار الطبيعة والازدهار البشري، وقالوا إن الازدهار البشري لا يتحقق إلا في كنف ازدهار الطبيعة والبيئة والمحافظة عليهما.
في القرآن الكريم آيات فصلت القول في علاقة الإنسان بالأرض والبيئة في حديثه عن قضية اختيار الله الإنسان للخلافة عـنه فوق الأرض عندما قال للملائكة في سورة البقرة (2) الآية 30: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة. قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبِّـح بحمدك ونـقـدِّس لك ؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون".
بمقتضى هذه الآية عـلِـم الله أن الإنسان هو أقدر مخلوقاته على إصلاح الأرض وإعمارها، والمحافظة على سلامتها. وجاءت آية أخرى في القرآن لتؤكد أن الأرض يرثها عبادي الصالحون. والمراد الصالحون لإصلاحها وإعمارها والمحافظة عليها. وعندما طعنت الملائكة في أهلية الإنسان (كل الإنسان، أي الجنس البشري في المطلق) لأنه يُـفسد فيها ويسفك الدماء واعتبروا أنهم الأكثر أهلية للقيام بهذه المسؤولية رد عليهم الله قائلا : "إني أعلم ما لا تعلمون". أي أنه يعلم ما يجهله الملائكة عن مدى ما يمتـلكه الإنسان من قدرات تؤهله لإدارة الأرض وإعمارها وتـنميتها بامتياز. وكانت الرؤية الإلهية هي الأصدق. فمنذ آدم إلى اليوم توارثت الأجيال الحاضرة الأرض والطبيعة والبيئة عن الأجيال السابقة مثـلما توارث الآخِـرون عن الأوّلين الازدهار العمراني وتدرُّج البيئة والطبيعة على درب التنمية التي يتـقدم فيها كل جيل أكثر من سابقه، ويتسع حجم ومدى تنميتها من لدن الإنسان بوتيرة سرعة مذهلة بفضل التقدم العلمي والتطور التكنولوجي.
إنما الذي ميز المنتصف الثاني من القرن العشرين في هذا المجال كان بكل تأكيد انطلاقة حركة تضافر جهود البشرية لتحقيق التنمية، وتوفير التنسيق بين الفاعلين في مجال التنمية من حكومات، ومنظمات عالمية، وجمعيات المجتمع المدني، ومن رجال البحث العلمي، والمشاركين من مختلف التخصصات في ندوات التنمية والتنمية المستدامة، ومن حصيلة الندوات والاجتماعات والقمم المنعقدة في موضوع التنمية. وكانت حصيلة عمل هذه الأطراف (أو الشركاء) هي وضع المخططات العلمية لتحقيق التنمية، بحيث أصبحت هذه الحصيلة - على اختلاف مصادرها- المرجعية الأساسية للفاعلين والباحثين والمنظرين والمطبقين على أرض الواقع لبرامج التـنمية على اختلاف مفاهيمها.
وكانت الظاهرة المخيفة التي توقف البحث عندها طويلا هي إذاية الاقتصاد الصناعي (أو المصنـّـع) للطبيعة والبيئة، وتـتجلى في انتشار التـلوث المتولد عن التجهيزات الميكانيكية التي يعمل بها الاقتصاد العالمي، وما يترتب على ذلك من أعراض الأمراض والأوبئة التي تؤذي الإنسان والحيوان، وما يصيب الأرض والطبيعة من التلوث الذي يعرقـل النمو السليم ويصيبهما هما أيضا بالأمراض الخاصة إن صح هذا التعبير. وذلك ما جعل من الاقتصاد المصنـّع عدوا للبيئة، لأنه إن كانت له مردودية إيجابية على تطور الإنسان وتقدمه، فإن إضراره بالطبيعة والبيئة يكون أحيانا وخيما لا يقتصر على الأرض وحدها ولكن أيضا على ساكنتها.
وتلافيا لذلك انعقد على صعيد الاتحاد الأوروبي لقاء أُطلِـق عليه "لقاء المصالحة بين الاقتصاد والبيئة" أو "حماية البيئة من أضرار الاقتصاد". وكان أول هذه اللقاءات سنة 1950 حيث أصدر اجتماع الاتحاد تقريرا عن أعماله بعنوان :"المحافظة على الطبيعة عبر العالم". واعتـُبـِـر هذا التقرير التقرير الرائد الذي طرح لأول مرة مقاربة المصالحة بين الاقتصاد والبيئة والطبيعة.
لكن اشتغال المجتمع الدولي بموضوع البيئة والتنمية لم يبدأ في هذا التاريخ بل في سنة 1915 على يد اللجنة الدولية التي انعقدت بكندا تحت شعار:"المحافظة على البيئة" التي كانت ترادف آنذاك كلمة الطبيعة. وقد أعلنت اللجة الكندية في نهاية الاجتماع عن شعار يقول:"يجب على كل جيل أن يستفيد من الفوائد التي يحققها الرأسمال الطبيعي. ويجب أن يُـسلـَّـم هذا الرأسمال كاملا غير منقوص من جيل إلى آخر".
وفي سنة 1923 انعقد بباريس المؤتمر الدولي للمحافظة على الطبيعة ورفع شعار :"ضرورة المحافظة على الطبيعة والاستعمال العقلي للموارد".
وفي سنة 1948 انعقدت بفونتين بلو ندوة اليونيسكو لإنشاء منظمة الاتحاد الأوروبي للمحافظة على الطبيعة. وأصدر نادي روما سنة 1970 تقريرا بعنوان :"مفهوم التنمية في درجة الصفر". وفي سنة 1972 صدر عن منظمة الأمم المتحدة في اجتماعها باستوكهولم للبيئة البشرية برنامج الأمم المتحدة للبيئة. وكان محوره الأساسي : "الإنسان والبيئة"، وبعد انعقاده ابتدأ عبر العالم في حكومات الدول المتحضرة تأسيس وزارات خاصة بالبيئة.
ثم تطورت البحوث النظرية التي أعدتها هذه اللقاءات الدولية إلى إعداد دراسات إستراتيجية، تألف منها ما سمي بالإستراتيجية الدولية للتنمية. وتبلورت هذه الجهود أكثر بإنشاء المركز الدولي للبحث في البيئة والتنمية الذي انطلقت أعماله في غضون سنة 1973. وفي سنة 1980 صدر عن الاتحاد الدولي للمحافظة على الطبيعة تقرير تضمن "الإستراتيجية العالمية للمحافظة". وهو المعروف بتقرير "براندطلاند" الوزير الأول النرويجي. وكان عنوان هذا التقرير : "الأسئلة الشاملة تتطلب أجوبة شاملة".
ركزت وثيقة الاستراتيجية العالمية للمحافظة على الطبيعة، لكنها أعطت الأسبقية للتركيز على إزالة التناقض الذي كان يُـتحدث عنه من قبلُ بين المحافظة على الطبيعة وبين التنمية الاقتصادية. وأسست هذه الوثيقة لأول مرة لمفهوم التنمية المستدامة انطلاقا من التحليل الذي يقر بوجود علاقة وطيدة تربط بين الاقتصاد والبيئة (أو علاقة ترابط تحكم بينهما). وكان التقرير الأول المنبثق عن نادي روما سنة 1970 يحمل عنوان :"كفى من النمو". وهو ما فجر نقاشات حادة بين المناضلين البيئيين : بين أنصار إبقاء النمو في درجة الصفر، وبين جبهة الدعوة إلى مواصلة دفع النمو إلى أقصى حد مهما كان الثمن والعواقب.
وأول محاولة للتوفيق بين النزعتين جاءت في ندوة الأمم المتحدة حول البيئة البشرية بستوكهولم سنة 1972 بطرح مفهوم جديد للتنمية يأخذ بالاعتبار وجوب ملاءمة التنمية للبيئة، أي تنمية تحترم البيئة وتولي عناية خاصة للتسيير الفعال للموارد الطبيعية، بل حتى جعل التنمية الاقتصادية ملائمة للعدالة الاجتماعية.
وقد صدر عن أعمال ندوة ستوكهولم تحديد خمسة أهداف لابد من الوصول إليها لتحقيق الملاءمة بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وهي :
(1) مراقبة حذِرة للبيئة لتلافي وتوقي الإضرار بها.
(2) التحكم في استعمال الموارد البشرية بالعدل.
(3) تـوظيــف تـقـنـيات "نظيـفة" تـتحكم في إنتاج النـُّــفايات
وفي استعمال الملوِّثات.
(4) حصر معقول للنشاطات الاقتصادية.
(5) تكـيـيـف أسالـيـب الاسـتهـلاك مـع العــوائــق البـيـئـيــة
والاجـتـماعـية. وهـو ما يعنـي- بـعـبـارة أخرى- اخـتيار
الأفضلية للحاجيات على حساب تزايد الطلب.
وفي الثمانينات من القرن العشرين انتقل النقاش العالمي من مرحلة التـنمية إلى مرحلة التنمية المستدامة بتحديد مفهومها القاضي بجعلها متسمة بالديمومة والاستمرار، وذلك باستهداف خدمة المجتمعات المتلاحقة جيلا بعد جيل، وإبعاد مفهومها عن الانحباس في بعد الزمن الحاضر الذي يذوب في مفهوم الزمن المتجدد الذي لا يتوقف. وهكذا تحولت التنمية المستدامة من اعتبارها نظرية تبحث عن محدِّداتها إلى مبدأ أساسي تقوم عليه السياسات العمومية سواء على المستوى الوطني أو الدولي. وهو ما جعل مخططات التنمية التي صدرت عن الفاعلين في حقلها تـُعتبر مجرد جسر واصل ومؤدي إلى المستقبل قائم الحضور ودائم التجدد.
وفي سنة 1992 انعقدت قمة "ريو دي جانيرو" حول التنمية والبيئة. وصدر عنها التقرير النهائي الذي أصبح يُعرف بمفكرة (أو أجاندة) (أو العمل) رقم 21. وهي تتضمن اتفاق القمة حول التنمية الملائمة للبيئة، والاتفاق الإطار حول التغييرات المناخية. وقد دُعِـيت هذه القمة بقمة الأرض. واحتوت المفكرة 21 على 2500 توصية تألف منها برنامج شامل متكامل للتنمية المستدامة يطبق خلال القرن الواحد والعشرين.
لكن اجتماع الأمم المتحدة بنيويورك ما بين 23 و 27 يونيه 1997 الذي تدارس حصيلة تطبيقات المفكرة سالفة الذكر لاحظ أن هذه المفكرة لم تعرف طريقها إلى التطبيق، وأن رؤساء الدول الحاضرين لم يتفقوا على إصدار بيان مشترك يحدد السياسة العامة المشتركة للتنمية.
وكان أكبر اجتماع عالمي عُـرف إلى اليوم منذ بداية القرن الواحد والعشرين هو الاجتماع الذي انعقد من نهاية أبريل إلى 9 مايو 2003 وخُصص لمناقشة برامج التنمية المستدامة، وشاركت فيه الحكومات، والمنظمات العالمية، والمنظمات الوطنية غير الحكومية، ووكالات الأمم المتحدة، والقطاع الخاص. وتميز بحضور الوزراء المكلفين بحقائب التنمية، والمياه، والفلاحة (الزراعة)، والطاقة. وكان جدول أعماله يحتوي من بين محاوره على محور:مناقشة ما تم تحقيقه فيما يخص التنمية المستدامة منذ اجتماع مؤتمر "جوهانسبوغ" الذي انعقد سنة 2001.
وقد لاحظ المجتمعون في هذه المؤتمرات أن تقدم التنمية المستدامة بطئ، بل وُصف بأنه مخـيِّـب للآمال، وأن مستوى الإرادة السياسية للفاعلين في حقل التنمية غير متكافئ. ولذا تقرر أن تعقد اللجنة الأممية للتنمية المستدامة اجتماعا متخصصا في التنمية كل سنة، يقوم باستعراض حصيلة العمل السنوي ويعطي الخطوط التوجيهية لضبط أسلوب تطبيق المنهج المتجدد كل سنة.
ويواجه المخطط العالمي للتنمية المستدامة صعوبات وتحديات : في طليعتها الجواب الصحيح على السؤال الخطير التالي: كيف يتحقق تحسين مستوى العيش البشري والمحافظة على الموارد الطبيعية في عالم يشهد نموا سكانيا ويتزايد فيه الطلب على الغذاء والماء والسكن والطاقة والخدمات الصحية والأمن الغذائي والأمن الاقتصادي ؟ وعلى هذا السؤال الآخر الذي لا يقل خطورة: ألم يأن الأوان أن يعيد سكان الأرض النظر في أنماط الاستهلاك وإنتاجها، وأن تلتزم الأقطار العالمية بالنمو الاقتصادي المتوازن الذي تـتـقارب على الأقل فيه التفاوتات المجتمعية، وأن تـنفتِــح الأقطار الغنية المتقدمة على أقطار الاقتصاد البدائي (أو المتعثر) لتقدم الأولى للثانية المزيد من الخبرات والتكنولوجيا المتقدمة، والمزيد من الموارد المساعدة على تطوير وضعها الاقتصادي وتحسين أداء اقتصادها ؟
والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي بين سكان العالم الذي يتمثـل في الفارق المشين بين الشمال والجنوب هو أكبر تحد تواجهه برامج التنمية المستدامة. والإحصائيات المعبرة عن تفاوت الأوضاع بين عالم الغنى المتميز بالرفاهية والبذخ الزائد، وعالم الفقر الذي يشكو من الجوع والبطالة والإقصاء والتهميش تـُـقـدِّم لنا صورة سوداء عن ما يفصل عالم الشمال عن عالم الجنوب. وهي تقول : إن 20 % فقط من سكان الأرض هم الذين يستهلكون الموارد الطبيعية ويستفيدون من خيراتها. وأن مليارين من سكان الأرض البالغ عددهم 6 مليارات هم وحدهم الذين يتمتعون بالماء والكهرباء.
وتقدر منظمة الصحة العالمية أن النوعية السيّـئة للبيئة تـُسبّـب 25% من مجموع الأمراض التي يمكن الوقاية منها في العالم اليوم. وقد وصلت المناقشات الدولية على صعيد الأمم المتحدة إلى الإجماع على أن الأمراض المتصلة بالبيئة تشكل تهديدا خطيرا ومباشرا لصحة الإنسان. وأن من الضروري اتخاذ عدد من التدابير لتوقي أخطارها. وفي طليعتها توفير إمكانيات الحصول على مياه الشرب المأمونة، وتوسيع نطاق التكنولوجيات الأساسية للتطبيب والعلاج، والتخلص من النـُـفايات والملوِّثات، وتحسين نوعية الهواء في المناطق الحضرية.
والإحصائيات تقول أيضا إن واحدا من كل خمسة من البشر لا يستطيع الحصول على مياه الشرب النظيفة، وإن الضغط الواقع على موارد المياه يزداد مطردا بفعل زيادة الطلب البشري للماء الشـَّــروب.
وفي ندوة صحفية عقدها في الثاني والعشرين من أبريل 2004 (الشهر المنصرم) "جيم وولفو صوهن" رئيس البنك الدولي قال إنه :" يأسف لكون العالم أصبح يُعـبَّـأ ضد الإرهاب، ومن أجل إعطاء الشرعية الدولية لحرب العراق، وللحديث المُـمِّــل عن التنمية، ومحاربة الفقر، والانتخابات الرئاسية الأميريكية، في غفلة عن واقع الأقطار المتطلعة للنمو، بينما مشاكل هذه الأقطار ليست أجنبية ولا غريبة عن مشاكل العالم الكبرى. وزاد يقول:"ونحن نعتقد بكل إخلاص أنه لا يمكن تحقيق السلم وتوفير الاستقرار دون أن نعالج مشكلة الفقر في العالم. لكن المؤسف أن مشاكل العالم الفقيرة ليست من المشاكل "المتفجرة. لذا لا يتحدث العالم عنها إلا قليلا، ولا يتحرك من أجلها إلا نادرا".
إن الوعود التي قطعتها الدول الغنية الكبرى بتخصيص مبالغ مالية للعالم المتخلف لم يقع الوفاء بها وكان مبلغها قد قدربـ 300 مليار كل سنة، لكن ذلــك لم يتحـقـق إذ لم يـتجاوزما قدمته ما بين 50 و60 مليارا. وذلك في الوقت الذي تبلغ نفقات الدول الغنية الكبرى في المجال العسكري وتطوير الأسلحة الحربية 800 مليار دولار سنويا.
لتسريع تحقيق التنمية المستدامة أوصت المنظمات الدولية المختصة بفسح المجال لحركة الاستثمارات بدون حدود ولا قيود. وهذه هي القاعدة الأساس في مجال عولمة الاقتصاد. وقالت عن ذلك إن هذا الانفتاح هو أمل الانتقال نحو التنمية المستديمة. ومن المؤكد أن وفرة الاستثمارات تتيح للمستفيد منها تحولات هامة للأموال والتكنولوجيا، وتساهم في تحسين مستوى أداء المقاولات. لكن لم يضع المجتمع الدولي لها ضوابط وقواعد تلتزم بها مما يجعل بعض الاستثمارات التي تقوم بها مقاولات غير نزيهة تستغل بجشع الموارد الطبيعية والبشرية في الدول السائرة في طريق النمو، وتؤوّل التدابير الحمائية التي تمنحها لها الدول المحتاجة إلى الاستثمارات على أنها إذن وتفويت لها يسمح للاقتصاد الوارد بالهيمنة على الاقتصاد الأهلي المقيم وابتلاعه.
ويطول حجم هذه المداخلة لو حاولنا طرح التحديات التي تواجهها برامج التنمية ورصد البون الشاسع الذي يفصل التنظير عن التطبيق. ذلك لأن بيئة العالم لا تزال هشة جدا، والتدابير المنتظر اتخاذها للحفاظ عليها بعيدة عن أن تكون كافية كما قال عن ذلك الأمين العام "كوفي عنان" في تقريره عن تطبيق أجندة 21 عن التنمية المستدامة. وأضاف يقول :" لقد تم تحقيق تقدم طفيف جدا في مجال الحد من الفقر في بعض الدول النامية. والعولمة بحد ذاتها لم تنفع أكثرية العالم، لكن المحاولات لتعزيز التنمية البشرية ناجحة بشكل عام".
إن هذا الفشل الذي تلاقيه مشاريع التنمية المستدامة في مجال التطبيق لا ينبغي التسليم به على أنه واقع ليس له من دافع، بل ينبغي أن يكون حافزا على إجراء المزيد من الحوار العالمي للتعرف على أسبابه الظاهرة والمعلنة، وعلى ضبط مسؤولية من هم وراءه، وممارسة الضغوط عليهم لتصحيح مسارهم على صعيد التعامل الدولي. كما ينبغي أن يدفع هذا الفشل إلى المزيد من تعبئة جهود الفاعلين في مجال التنمية المستدامة من حكومات ومنظمات ووكالات، وبمساهمة متميزة من مؤسسات المجتمع المدني الذي لا يزال لم يتمكن من لعب دوره الأساسي في عملية التنمية في حين أن عطاءه لن يكون قليلا لو أُنزِل منزلة شريك أساسي. والمجتمع الدولي يتفق اليوم على أن مشاركته أكثر من ضرورية، بل هي أساسية ومحورية.
وضِــمن المجتمع المدني على اختلاف ألوان طيفه تندمج حركة رواد الكشفية الذين تؤهلهم تربيتهم الكشفية للمشاركة في دفع حركة التنمية، بل للاضطلاع فيها بدور متميز، لأن الكشاف يتربى على ثقافة البذل والعطاء بدون حساب ولا مقابل، بل نكران الذات، والاحتساب في العمل، والتضحية بلا حدود، وعلى الإخلاص والتفاني في العمل وإتقانه. ولأنه يتربى ضمن أخلاقيات الكشفية على حب الأرض والتعلق بها والالتصاق بها ويتجاوب معها، بل يتبادل معها أحاسيسها وخلجاتها.
لقد نشأت الحركة الكشفية للمساهمة أساسا في التنمية البشرية : تنمية الشباب للاستفادة من قدراتهم البدنية والعقلية والاجتماعية والروحية كأفراد ومواطنين مسؤولين، وكأعضاء في مجتمعاتهم الوطنية أساسا والمجتمع العالمي عامة. والكشفية تعتمد في برامجها على الممارسة واكتساب المعلومات والخبرات والمهارات، وتساهم في استثمار وقت الشباب وحمايتهم من الوقوع في التردي اللاأخلاقي، وتربيتهم على نبذ التواكل والكسل، وفقد الضمير المهني، وعدم الشعور بالمسؤولية.
وفي ذلك يقول مؤسس الحركة الكشفية الكولونيل البريطاني "بادن باول" في مقدمة كتابه (الكشفية) :"قال بعض المتحمسين إن الكشفية ثورة تربوية، ولكنها ليست كذلك. بل هي فكرة أريد منها تجديد الحياة في الهواء الطلق. وهي مدرسة تـُعِـدّ المتعلم فيها للعمل النشيط في الحياة العامة :" ويمكن أن نضيف إلى ذلك أنها نظام يربي الناشئة على الارتباط بصداقة حميمية مع الأرض والطبيعة والإنسان، ويتعلم المتربَّى في أحضانها الاعتماد على النفس، وقوة الملاحظة، ودقة الانتباه، وخصال الوفاء والأمانة والشجاعة والصبر، وخدمة الإنسان أينما وجد.
وعلى ذلك فالتنمية المستدامة في حاجة إلى أذرعة هذا النوع من المواطنين وعقولهم وأخلاقهم. وخاصة إلى السلاح الذي ينفردون ويتميزون بامتلاكه : سلاح المعاناة والمصابرة وقوة الضمير المهني والاستعداد الدائم. و"الكشاف دائما مستعد".